العلماء يكتشفون لماذا تحب الإنفلونزا فصل الشتاء

تُعد الإنفلونزا واحدة من أكثر الأمراض الفيروسية انتشارًا وتأثيرًا على صحة الإنسان، وتتسم بزيادة واضحة في حالات الإصابة بها خلال فصل الشتاء مقارنة بباقي فصول السنة. على الرغم من أن ظاهرة تفشي الإنفلونزا شتاءً معروفة منذ زمن بعيد، فإن العلماء لم يتوصلوا إلى فهم دقيق للأسباب التي تجعل هذا الفيروس يفضل الشتاء على باقي الفصول. خلال السنوات الأخيرة، ومع التقدم الكبير في مجالات الأبحاث البيولوجية والطبية والبيئية، تم اكتشاف مجموعة من العوامل التي تفسر ارتباط الإنفلونزا بالشتاء، وتكشف عن التفاعل المعقد بين الفيروس والبيئة والمضيف البشري.

طبيعة فيروس الإنفلونزا

فيروس الإنفلونزا هو فيروس RNA من نوع Orthomyxoviridae، ويتميز بقدرته الكبيرة على التغير والتحور، مما يجعله قادرًا على التهرب من مناعة الإنسان المكتسبة من التعرض السابق أو التطعيم. ينتقل الفيروس بشكل أساسي عن طريق الرذاذ التنفسي عند السعال أو العطس، وكذلك من خلال التلامس المباشر مع الأسطح الملوثة. قدرة الفيروس على البقاء في البيئة لفترات طويلة، وكذلك سرعة انتشاره بين الناس، تجعل من الإنفلونزا وباءً متكررًا خلال مواسم معينة.

العلاقة بين الشتاء والإنفلونزا: التفسير العلمي

1. تأثير درجة الحرارة والرطوبة

تلعب الظروف المناخية دورًا أساسيًا في تعزيز نشاط فيروس الإنفلونزا خلال فصل الشتاء. أشارت دراسات عديدة إلى أن انخفاض درجة الحرارة والرطوبة الجوية يخلقان بيئة مثالية لبقاء الفيروس حيويًا لفترة أطول. ففي الجو البارد والجاف، تحافظ قطرات الرذاذ المحمولة في الهواء على الفيروس لفترات أطول مقارنة بالجو الحار والرطب، حيث تتسبب الرطوبة العالية في تجمع القطرات وسرعة سقوطها، مما يقلل من انتشار الفيروس.

بالإضافة إلى ذلك، يتسبب الهواء البارد في جفاف الأغشية المخاطية للأنف والحنجرة، مما يقلل من كفاءة جهاز المناعة الموضعية، ويجعل الإنسان أكثر عرضة للإصابة. هواء الشتاء البارد والجاف يضعف الحاجز الأول الذي يحمي الجسم من دخول الفيروسات.

2. انخفاض التعرض لأشعة الشمس وانخفاض فيتامين د

يؤدي قصر النهار في الشتاء وارتفاع السحب إلى تقليل كمية الأشعة فوق البنفسجية التي تصل إلى سطح الأرض. هذه الأشعة ضرورية لتحفيز الجلد على إنتاج فيتامين د، الذي يلعب دورًا محوريًا في دعم الجهاز المناعي وتنشيط الاستجابة المناعية ضد الفيروسات. نقص فيتامين د في الشتاء يؤدي إلى انخفاض في كفاءة الدفاعات المناعية، ما يجعل الإصابة بالإنفلونزا أكثر احتمالاً.

3. التغيرات السلوكية والاجتماعية

تتغير سلوكيات البشر بشكل ملحوظ خلال فصل الشتاء، حيث يلجأ الناس إلى البقاء في الأماكن المغلقة والمزدحمة بسبب الطقس البارد. هذا التقارب المكاني يزيد من فرص انتقال العدوى بسهولة بين الأشخاص، خصوصًا في الأماكن المغلقة مثل المدارس، مراكز العمل، ووسائل النقل العام.

زيادة تجمع الأفراد في أماكن ضيقة تقلل من التهوية وتزيد من تركيز الفيروسات المحمولة جوًا، مما يعزز انتشار الإنفلونزا بسرعة أكبر.

4. تأثير نظام المناعة الموسمي

تشير الأبحاث إلى وجود تغيرات في استجابة الجهاز المناعي مع تقلبات الفصول. في الشتاء، هناك ميل إلى تقليل نشاط بعض الخلايا المناعية التي تهاجم الفيروسات بشكل مباشر، بينما ترتفع مستويات بعض الجزيئات الالتهابية التي قد تؤدي إلى استجابة مناعية أقل توازنًا وفعالية. هذا التغير الموسمي في المناعة يتيح للفيروسات فرصًا أكبر للانتشار والبقاء داخل الجسم.

5. التغيرات الفيروسية الموسمية

فيروس الإنفلونزا نفسه يتغير بتأثير الظروف البيئية. أظهرت دراسات حديثة أن فيروسات الإنفلونزا في الشتاء تمتلك قدرة أفضل على التكيف مع درجات الحرارة المنخفضة، مما يحسن من تكاثرها وانتشارها في الجهاز التنفسي. هذه التغيرات الفيروسية تعزز من فعالية الفيروس خلال فصل الشتاء مقارنة بالفصول الأخرى.

تأثير هذه العوامل على الصحة العامة

مع معرفة هذه العوامل، يصبح من الواضح لماذا يزداد عدد حالات الإنفلونزا خلال فصل الشتاء بشكل كبير، وهو ما يشكل عبئًا صحيًا على الأنظمة الصحية حول العالم. الإنفلونزا ليست فقط مرضًا مؤقتًا يسبب الحمى والسعال، بل يمكن أن تؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل الالتهاب الرئوي، خصوصًا في الفئات الضعيفة مثل الأطفال، كبار السن، والمصابين بأمراض مزمنة.

تكرار الإصابة بالإنفلونزا في الشتاء يسبب ضغوطًا اقتصادية كبيرة بسبب الغياب عن العمل والدراسة، إضافة إلى التكاليف الطبية المرتفعة لعلاج الحالات الشديدة.

التدابير الوقائية لمواجهة إنفلونزا الشتاء

التعامل مع الإنفلونزا في الشتاء يتطلب استراتيجية متكاملة تعتمد على معرفة أسباب زيادة نشاط الفيروس وتفشيه، ومن أهم هذه التدابير:

• التطعيم السنوي: يعد لقاح الإنفلونزا السنوي الوسيلة الأكثر فعالية للوقاية، حيث يتم تحديثه سنويًا لمواجهة التحورات الجديدة للفيروس.

• الحفاظ على الرطوبة: استخدام أجهزة ترطيب الهواء في المنازل والأماكن المغلقة يساعد على منع جفاف الأغشية المخاطية وتقليل فرص الإصابة.

• تعزيز المناعة: من خلال التغذية الصحية التي تحتوي على فيتامين د، وأخذ مكملاته عند الحاجة، بالإضافة إلى الحفاظ على نمط حياة صحي وممارسة الرياضة.

• الابتعاد عن التجمعات: خاصة في الأماكن المغلقة والمزدحمة خلال موسم الإنفلونزا.

• النظافة الشخصية: غسل اليدين بانتظام، واستخدام الكمامات عند الضرورة، وتغطية الفم والأنف أثناء السعال أو العطس.

جدول يوضح تأثير العوامل المناخية والسلوكية على انتشار الإنفلونزا في الشتاء

خلاصة

يمثل فصل الشتاء بيئة مثالية لتكاثر وانتشار فيروس الإنفلونزا، وذلك بسبب التفاعل المعقد بين عدة عوامل بيئية وسلوكية وبيولوجية. يؤدي انخفاض درجات الحرارة والرطوبة، بالإضافة إلى التغيرات في الجهاز المناعي وقلة التعرض لأشعة الشمس، إلى تهيئة الظروف التي تسمح للفيروس بالبقاء لفترات أطول، وزيادة قابلية الإنسان للإصابة. إضافة إلى ذلك، تساعد العادات الشتوية مثل التجمّع في الأماكن المغلقة على تسريع انتقال العدوى.

توضح هذه الاكتشافات أهمية اتخاذ الإجراءات الوقائية الصحية، والتي تبدأ من اللقاحات السنوية وصولاً إلى تحسين نمط الحياة وتعزيز المناعة، لتقليل تأثير الإنفلونزا التي لا تزال تمثل تهديدًا صحيًا متكررًا في كل شتاء. بالتالي، فهم هذه العوامل يساعد في تطوير استراتيجيات أكثر فعالية للحد من انتشار الإنفلونزا وتقليل مضاعفاتها الصحية.

المصادر والمراجع

1. Moriyama M., Hugentobler W.J., Iwasaki A. (2020). Seasonality of Respiratory Viral Infections. Annual Review of Virology, 7, 83-101.

2. Lowen A.C., Steel J. (2014). Roles of humidity and temperature in shaping influenza seasonality. Journal of Virology, 88(14), 7692–7695.